في ظلّ الرصد والرقابة والحذف الذي تتعرض له الحملات الفلسطينيّة، وتوثيق انتهاكات حقوق الفلسطينيين/ات، والمحتوى المناصر للفلسطينيين/ات، لا يتمكّن الفلسطينيون/ات من التّعبير عن أنفسهم/ن بحريّة على منصّات ميتا. في هذا السّياق، وثّق مركز حملة أكثر من 500 انتهاك للحقوق الرّقميّة للفلسطينيّين خلال هبّة أيّار/مايو 2021 وما يقارب 1500 انتهاك ما بين عامي 2021 و2022 فقط، حيث تسببت شركة ميتا بأكثر من ـ80 بالمئة من هذه الانتهاكات تتولّى الحكومة الإسرائيليّة الكثير من عمليات الرقابة على المحتوى عبر إرسال عشرات آلاف الطّلبات سنويًا لشركات التّواصل الاجتماعي لإزالة محتويات مستهدفة، في المقابل تمتثل الشّركات لطلبات الحكومة الإسرائيليّة في 90 بالمئة من الحالات، يُذكر هنا أنّ 87 بالمئة من الطّلبات الّتي قدّمتها الحكومة الإسرائيليّة كانت مُوجّهة لشركة ميتا. نتيجة لذلك، تُعلَّق الحسابات الفلسطينيّة؛ ويجد الفلسطينيون/ات أنفسهم/ن في موضعٍ غير مريح كلما أرادوا/ن التّعبير عن آرائهم/ن خوفاً من العواقب الجنائيّة أو السّياسيّة. لا تُشكّل هذه الأمثلة سوى جزء بسيط من الانتهاكات الرّقميّة التي يتعرضون لها، إلا أنها تُضيء على الدور الذي تلعبه منصات شركة ميتا بالتسبب في هذه الانتهاكات. وفي المقابل،، يستمر خطاب الكراهيّة ضد الفلسطينيين/ات باللغة العبرية بالانتشار عبر المنصات، في هذا السّياق، وثق حملة زيادة في الخطاب العنيف الموجّه ضد العرب والفلسطينيين/ات بنسبة 16 بالمئة في عام 2020 مقارنة بما كان عليه في 2019 وزيادة أخرى بنسبة 8 بالمئة ما بين عامي 2020 و2021.
لكن لماذا يتم رصد المحتوى الفلسطيني وإخضاعه للرقابة والإجحاف به بشكل غير متكافئ مع غيره من المحتويات؟ شهدت السّنوات الماضية توثيقًا واسعًا لأخطاء إدارة المحتوى على منصّات شركة ميتا إلا أنّ الأسباب الجذرية للإفراط في إدارة المحتوى الفلسطيني قليلة، منها تعامُل شركة ميتا مع المحتوى المنشور بالعربيّة على منصّاتها، وسياساتها وإجراءاتها المُبهمة بشأن إدارة المحتوى، فضلًا عن القوّة والتأثير الكبيرين لإسرائيل.
تُبالغ شركة ميتا في إدارةالمحتوى المنشور باللغة العربية، علمًا أنّ اللغة العربيّة. تُعدُّ أحد أكثر اللّغات استخدًاما على منصّات الشّركة، بما في ذلك لهجاتها الّتي تُقارب الثّلاثين لهجة، والتي تختلف فيما بينها. يُذكر في هذا السّياق أنّ ميتا تعمد إلى تعهيد عمليّة إدارة المحتوى لشركاتٍ أخرى على الرغم من معرفتها، ومنذ وقت ليس بالقليل، أنّ طواقم الشّركات المنوط لها إدارة المحتوى لا تمتلك المهارات اللّغويّة العربيّة اللازمة حتى تتمكّن من مراجعة المحتوى بدقّة حسب ما جاء في إحدى الوثائق المُسربة. وأشارت الوثيقة ذاتها في أحد الأمثلة الّتي أوردتها أنّ 90 بالمئة من المحتوى المكتوب باللّهجة المصريّة يُساء تصنيفه، وأنّ الطواقم المسؤولة عن إدارة المحتوى تكاد تفتقر لأي دراية باللّهجة العراقيّة. ترك هذا الأمر أثرًا كبيرًا على المحتوى الفلسطيني أيضًا؛ فعلى سبيل المثال، قامت شركة ميتا بإزالة محتوى عربي اتضح لها لاحقًا عدم صحة إزالته إثر طعن أصحاب هذه المحتويات في قرار الإزالة خلال أحداث هبّة أيّار/مايو 2021، إلّا أنّ المشكلة لا تقف عند هذا الحدّ، ففي السّنين الأخيرة باتت ميتا أكثر اعتمادًا على الخوارزميات والتقنيات المؤتمتة للإشراف على المحتوى المنشور على منصّاتها، وهو تطور إشكالي لعدة أسباب. أولًا، لا تُصنِّف شركة ميتا ما تنشره من بيانات بشأن كفاءة التّقنيات المؤتمتة الّتي تستخدمها حَسَب كل دولة ولغة. ثانيًا، لا بُدّ لخوارزميات التّعلّم الآلي من مجموعة من الأمثلة الّتي خضعت لإدارة سليمة حتى تستطيع التعلم والتطبيق بشكل فعّال، إلا أنّ الطواقم الإشرافيّة لشركة ميتا ليست مؤهلة كما ينبغي كما أشرنا سابقاً، حيث عدلت ميتا عن إزالة العديد من المحتويات الّتي حذفتها خلال أيّار/مايو 2021. وعليه فإن تضمين مثل هذه الأخضاء ضمن مجموعة الأمثلة الّتي تتعلم منها الخوارزميات، معرّضةً للقيام بأخطاء مماثلة. ظهرت هذه الأمور بشكل علني عام 2021، حين أُخضِع محتوى عن المسجد الأقصى—ثالث أقدس الأماكن الإسلاميّة—للرقابة بالخطأ وذلك في خضم تعرّض الفلسطينيين/ات للاعتداء داخل المسجد في أوقات الصّلاة خلال شهر رمضان.
تفتقر سياسات وممارسات شركة ميتا في إدارة المحتوى إلى الشفافيّة، حيث لا تترك لأعضاء مجتمعهاسوى اطلاع محدود لما توظّفه وتستخدمه من تكنولوجيا. بشكل أساسي، تفتقر ميتا إلى الوضوح والشّفافيّة فيما يتعلق بكيفية تحديد ما يندرج ضمن خطاب الكراهيّة أو التّحريض على العنف على منصاتها. بالمثل، تفتقر سياسة الشّركة الخاصّة بالأفراد الخطرين والمنظمات الخطرة للوضوح، إذ لم تنشر الشّركة يومًا قائمة بهؤلاء الأفراد والمنظّمات، رغم مطالبة العديد من المنظّمات العاملة في مجال الحقوق الرّقميّة ميتا بالشّفافيّة ، حيث أن المعلومات الوحيدة المتوفرة عن القائمة مأخوذة من نسخة مسرّبة من القائمة حصل عليها موقع "ذي إنترسبت" (the Intercept). بشكل عام، يتم إزالة أي محتوى يصنف على أنه خطاب كراهيّة، أو يُحرض على العنف، أو يرتبط بأفراد خطرين أو منظمات خطرة أو يُشيد بها. لكن وفي ظلّ سياق مركب سياسيًا، قد يكون هناك خلاف على الأمور الّتي تجعل محتوى ما يشكل خطاب كراهيّة أو حول من ينبغي أن يُعتبر فردًا خطرًا أو منظّمة خطرة، وفي هذه السّياقات غالبًا ما تكون الفئات المهمشة هي الأكثر استهدافًا. على سبيل المثال، ضمّت النّسخة المُسربة من قائمة شركة ميتا للأفراد الخطرين والمنظّمات الخطرة منظمات مجتمع مدني فلسطينيّة ، مع أنه ليس هناك رابط واضح بينها وبين وبين الإرهاب أو العنف بأي شكلٍ كان. يُظهر هذا المثال أنّ الإفراط في الرقابة على المحتوى الفلسطيني ليست مجرّد مشكلة تقنيّة، بل إشكاليّة سياسيّة أيضًا. ففي أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، أنتجت كراهية الإسلام والحرب على الإرهاب أنظمة تمييزية بحق المجتمعات الإسلاميّة والعربيّة على حد سواءٍ. إذ يُمكن رؤية ذلك في الحضور الكبير لأفرادٍ عرب ومسلمين ومنظمات عربيّة ومسلمة ضمن قائمة الأفراد الخطرين والمنظمات الخطرة لشركة ميتا حيث تضم القائمة أكثر من 50 جهة فلسطينيّة ما بين أفراد ومنظّمات، في المقابل لا يوجد سوى منظّمتين أو فردين إسرائيليين. وعليه فإنّ التّمييز التّقني والسّياسي الّذي يُواجهه المحتوى الفلسطينيّ على منصّات شركة ميتا يوفّر مساحة للنفوذ والتأثير الإسرائيليّ.
شهد مايو/أيّار من عام 2021 محاولة علنيّة وصريحة لوزير الدّفاع الإسرائيلي للضّغط على شركة ميتا لزيادة جهودها في إزالة المحتوى "المتطرّف" عن منصّاتها خلال الأحداث الّتي أشرنا لها سابقًا وفي خضم العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة في الفترة ذاتها. إن هذه المحاولة العلنيّة إنما تُضيء على "أريحيّة" العلاقة بين إسرائيل وشركة ميتا، وقد تطوّرت هذه العلاقة على مدار سنوات، قبل أن تشهد تحوّلًا بارزًا عام 2015 حين رفع 20000 إسرائيلي دعوى قضائية بحق الشّركة للحصول على تعويض بقيمة مليار دولاراً أمريكيّاً بحجّة أنّ الشّركة كانت تُسهل وتشجع "الإرهاب الفلسطيني." أُسقِطَت القضية لاحقًا وتعهّدت الشّركة بمكافحة "التّحريض الفلسطيني على منصاتها، " كما عملت على تكثيف علاقتها مع الحكومة الإسرائيليّة. إلى جانب ذلك، شهد عام 2015 تأسيس الحكومة الإسرائيليّة لوحدة السّايبر الإسرائيليّة بهدف "تعقُّب ومكافحة الإرهاب عبر الإنترنت." تعمل هذه الوحدة مباشرةً مع شركات وسائل التّواصل الاجتماعي لطلب تعليق محتويات أو حسابات عن هذه المنصّات أو إزالتها كليًّا، في المقابل، تمتثل الشّركات للغالبيّة السّاحقة من طلبات الوحدة المُستحدثة. مثلًا، أرسلت وحدة السّايبر الإسرائيليّة عام 2019 قرابة 20000 طلب (87 بالمئة منها إلى شركة ميتا)، لتمتثل الشّركات لـ90 بالمئة من هذه الطّلبات. ولعلاقة إسرائيل مع شركة ميتا أبعاد أخرى في ظل شغل عدد من البيروقراطيين الإسرائيليين رفيعي المستوى مناصبَ عليا على مستوى صنع القرار في الشّركة. عِلاوة على ذلك وسعيًا للاستفادة من نفوذها إلى أقصى حد، تتعاون الحكومة الإسرائيلية مع منظّماتٍ أهليّة تعمل على تنظيم جهودها لإغراق شركة ميتا بطلبات إزالة المحتوى الفلسطيني، لتُضاف هذه الطّلبات لعشرات الآلاف الّتي تُقدّمها الحكومة الإسرائيلية بنفسها. على سبيل المثال، تضم مبادرة "آكت آي-اِل" (Act-IL Initiative) نحو 26000 عضواً في 73 دولة يُطالبون بفرض رقابة على الأصوات الفلسطينيّة بل وإسكاتها على وسائل التّواصل الاجتماعي، لا سيّما على منصّات شركة ميتا. أخيرا وليس آخرًا، لا يخفى على أحد ما لإسرائيل من نفوذٍ اقتصادي كبير على شركة ميتا. ففي عام 2021 فقط، أنفقت إسرائيل نحو 319 مليون دولاراً أمريكياً على الإعلانات المموّلة على وسائل التّواصل الاجتماعي، 95 بالمئة منها لمنصّات ميتا. يُذكر أنّ ما تُنفقه إسرائيل على إعلانات وسائل التّواصل الاجتماعي يفوق مجموع مما ينفقه الفلسطينيون، والأردنيون، والمصريون معًا على إعلانات وسائل التّواصل الاجتماعي؛ ما يجعل سوق الإعلانات الإسرائيليّة واحدةً من أكبر الأسواق في المنطقة وعميلًا مهمًا جدًا لشركة ميتا.
شهدت السنوات الأخيرة جهدًا كبيرًا من المجتمع المدني للضغط على شركة ميتا لتحسين ما تتبعه من سياسات لإدارة المحتوى المتعلق بفلسطين وإسرائيل. تبين في صيف عام 2020، أنّ ميتا—التي كانت تعرف آنذاك باسم فيسبوك—كانت تفكر في تغيير سياستها الرّسميّة بشأن خطاب الكراهية لتشمل مصطلح "صهيوني،" كمرادف لـمصطلحي "يهودي،" أو "إسرائيلي،" الأمر الّذي لو تم كان سيحول دون أي انتقاد مشروع لدولة إسرائيل على هذه المنصّات، بل كان ليُكمّم أفواه الفلسطينيين/ات الّذين يحاولون زيادة الوعي حول انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها إسرائيل بحق الشّعب الفلسطيني. ردًا على ذلك، أَطلقَ تحالفٌ دوليٌّ من منظمات المجتمع المدني بعنوان "فيسبوك- نحتاج أن نتحدث- (Facebook, we need to talk) في محاولة لمُطالبة منصّة فيسبوك باحترام الحق بحرية التعبير والنّقد والكف عن إسكات الأصوات ونجحت الحملة من خلال الرسائل، والاحتجاجات، وتنظيم تجمعات احتجاجيّة في مكاتب الشّركة، واجتماعاتٍ مع ممثلين عن الشركة في منع تعديل الشّركة لسياسة خطاب الكراهية، حيث امتنعت الشركة عن إدراج مفردة "صهيوني" ضمن قائمة المصطلحات المحميّة. رغم كل ذلك، تُشير أدلة إلى أنّ الانتقادات والتّوثيقات غير الرّسميّة لانتهاكات حقوق الإنسان الّتي ترتكبها إسرائيل لا يزال من الوارد إخضاعها للرقابة.
ألهمت أحداث أيّار/مايو 2021 المستخدمين/ات للتصرف حول هذه القضية، حيث وثّق مركز حملة أكثر من 500 انتهاك للحقوق الرّقميّة على مدار أسبوعين فقط— وذلك بفضل التّعاون مع شركاء المركز المحليين والإقليميين والدّوليين—وشارك العديد من الفلسطينيين/ات ما تعرّضوا/ن له من إسكاتٍ ورقابة— لفت هذا انتباه مجلس الإشراف على ميتا، وهو مجلس مستقل عن الشركة. وبعد مراجعة وتدقيق، أصدر المجلس توصيته بأن تقوم ميتا بتعيين طرفٍ ثالث توكل إليه مهمّة مراجعة سياسات وممارسات إدارة المحتوى باللغتين العربية والعبرية، إضافة إلى المحتوى المتعلق بفلسطين تحديداً. أوصى المجلس أيضًا بنشر نتائج المراجعة الّتي سيُجريها الطرف الثّالث وإتاحتها للمستخدمين/ات. وعليه تعاقدت ميتا مع شركة "بي اِس آر" (BSR)، وهي شركة استشارات إدارية متخصصة في الممارسات التّجارية المسؤولة اجتماعيًّا، لإجراء المراجعة الموصي بها. وبعد تأجيلها لشهور، نشرت (BSR) التقرير أخيرًا في 22 أيلول/ سبتمبر، ونشرت ميتا ردًا رسميًا على التقرير أيضًا. وقد أصدر مركز حملة، مع 73 منظمة أخرى من جميع أنحاء العالم، بيان موقف حول التقرير بعد بضعة أيام. تقدم نتائج التقرير دليلاً إضافياً على أن الفلسطينيين/ات يتعرضون للرقابة والإسكات على منصات ميتا.
على الرغم من أحداث أيّار/مايو 2021 وحملة "فيسبوك، نحتاج أن نتحدث" (Facebook, we need to talk)، إلا أن الرّقابة على الأصوات والسّرديّة الفلسطينيّة وإسكاتها على منصات ميتا لا يزال مستمراً. كما وشهد تقارب شهر رمضان، وعيد القيامة، وعيد الفصح في عام 2022 موجةً جديدة من العنف في فلسطين. وما أنّ توجّه الفلسطينيون/ات إلى وسائل التواصل الاجتماعي لتوثيق اعتداءات قوات الاحتلال الإسرائيليّة حتّى وجدوا منشوراتهم/ن مصنّفةً بأنها مخالفة لمعايير مجتمع هذه المنصّات. في المقابل، تُرك متطرفون/ات إسرائيليون/ات دون أي تقييد لاستخدامهم تطبيق "واتس-آب" (WhatsApp)، وهو منصّة أخرى تابعة لشركة ميتا، للحشد والتحريض على هجمات على الفلسطينيين/ات وتنظيمها تظهر لنا هذه الأحداث الثلاثة، رغم تباعد أوقات حدوثها، أهميّة الاستمرار في دعم حق الفلسطينيين/ات في حرية التعبير!